يا زمان المسج
المسجات حاملات الأثقال، ومفسرات الأحوال، في زمن ندر فيه التواصل، وانعدمت الأواصل، وصار الناس فواصل مبعثرة، متعثرة، وطرائق قددا، والعاطفة التي كانت سيلاً أصبحت خيلاً، رافساً، داهساً لا ترحم خيالاً ولا خيلاً، بل إن الخيال البشري ضمر وانحسر وتكسر تحت الحوافر المعفرة والأنياب المكشرة·
فدخل المسج في بيت الطاعة البشرية صار الداء والدواء، ولا حيلة ولا وسيلة للناس غيره، لأن المشاعر أصيبت بانقطاع التيار الحراري، فادلهم الظلام، وساد الغمام، والوئام الذي كان أصبح شيئاً من ماضٍ لا يرام، وقافلة الناس تمضي بلا هدى، والخطوات تبتعد، والمسافة بيننا وبين الآخرين أوسع من أبعاد البحار والأنهار، والاغتراب سحاب يمنع ضوء التواصل من التسلل إلى النفوس، حتى صارت النفوس شموساً تعيش الكسوف، وفي أفضل الظروف لا يجد الإنسان من بيان في التواصل غير كلمات مبهمات مقتضبات، محشورة في شاشة أصغر من حجم إصبعين، وعليه أن يقطع النفس ليتلمس ما بين السطور·
هذه هي القطيعة، والقطيعة فجيعة، فظيعة، مريعة، مفزعة، وكل منا يقول كل شيء طعمه طعم الفراق، ولا انعتاق من الانغلاق، وسارت القلوب مخضوضة من وحشة الدروب، مكتظة برهانات وامتحانات صعبة مرعبة، مسهبة في الحسابات الخاطئة·
وفي ساحة كهذه، كبرت الأنانية، وتورمت وتضخمت وانتفخت حتى تجاوزت حجم الكائن الحي وقدراته وملكاته، وانطبق المثل على بعضنا ''الشيفة شيفة، والمعاني ضعيفة'' أجواف خالية، بالية، مبتلية بقلوب مضغها صارت كتلة من جحيم، فكثر الكارهون، صاروا نسلاً أثيماً، لئيماً، أليماً، صاروا أزمة، ملمة، محتدمة، والطريق حريق، ولا فسحة لنثة حب تبلل الأرض، وتؤدي الغرض لحياة أرحب وأخصب وأرطب·
كثر الكارهون، وامتدوا كالسيل في ليل يغضبون فينسفون ويخسفون ويقلبون المائدة في وجوه الحالمين بغد أكثر إشراقاً ويوماً براقاً لا يهدر ماء القلب، ولا يسفك دماء في الدرب·
كثر الكارهون، والكاره قطب سالب، شاحب، لا يجذب ولا يحدب، ولا يسكب إلا الادعاء والافتراء، واختزال العمر في لحظة تهور وتضور·
كثر الكارهون، والكاره لا يصل، وإن وصل صال، وإن صال ففي صولاته وبال وغربال، واحتمال أكثر لنهايات قصوى ومفجعة·
كثر الكارهون، والعابثون، والنافخون في النار والجمر، واتسعت حدقة النزوات للغزوات، وما المشاعر الإنسانية إلا حاجات مؤجلة·
كثر الكارهون للحياة، والناس، فاختصرت العلاقات الإنسانية بكلمة موجزة، أو إشارة مقتضبة، وتلويحة متقاعسة، والفجوة تتسع والأخلاق ترتع في مستنقع، والمسج ينسج خيوطه الشائكة المتشابكة، المحبكة بكل إتقان، والناس هم الناس، لكن الوجوه تلك الوجوه التي زاغت وراغت البسمة لتسكن مكانها أقنعة بألوان الطيف·