في هذا المناخ المحيط بنا والمرتبط بأزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، تتصاعد القراءات القائلة إننا أمام صراع حضارات متأصل ومتبلور. والقائلون بهذا الرأي يربطون مجموعة من الحوادث ربطاً عشوائياً انتقائياً ليبرزوا الدليل المعزز لرأيهم هذا، وفي الآن ذاته نراهم يتجاهلون العديد من الإشارات والتطورات والتي تدحض فرضيتهم هذه، أدلة تشمل مواقف دولية معينة وتكاتفاً إنسانياً كبيراً في الأزمات والمحن، وأمثلة لا تعد ولا تحصى تمتد من الأزمات الدولية كالبوسنة إلى الكوارث الطبيعية كالتسونامي وكاترينا وغيرها، فمثل هذه الأمثلة يتم تجاهلها، لأن العاطفة هي الغالبة وتوجيه العاطفة يتجه صوب التأكيد بأننا أمام صراع للحضارات.
والغريب أن مثل هذا المنطق قديم برغم أن المفكر الأميركي صامويل هنتينتغون أعطاه الإطار المسوق والتسمية الجاذبة من خلال توصيف صراع الحضارات، وفي هذا المنطق يشترك العديد من متطرفي الجانبين، الإسلامي والغربي، والذين يرون في أوهامهم مواجهة مستمرة ومكثفة بين الطرفين، ولاشك أن مثل هذه الدعوة وإن كانت عاطفية صادقة عند العديد من العرب والمسلمين إلا أنها تأخذ بعداً مؤدلجاً عند فئات من المتطرفين والذين يريدون تعزيز الأرضية الضرورية لدعم برامجهم السياسية في الأوطان العربية والمسلمة. ونضيف أن فصولاً مسيئة ومشينة كالفصل الدانمركي وحفلات التعذيب البشع في العراق، تعين هذه الفئة في جهودها هذه وفي تأجيج الشارع العربي والإسلامي تأجيجاً يستغل الغضب الشعبي لأهداف تسعى إلى تثبيت فكرة أننا أمام صراع بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي أو العلماني، أياً كان توجه هذا الغرب، ولذا رأينا في بعض الأقطار العربية والإسلامية توجيهاً للغضب الشعبي والمنظم لخدمة أهداف سياسية كاستخدام العنف الذي طال المؤسسات التمثيلية الدانمركية وتجاوزها ليطال غيرها، بينما الصورة الفاعلة والمؤثرة تكمن في الوسائل السلمية كالمقاطعة الشعبية والمسيرات السلمية، ولكن، وكما نطرح هنا، يريد البعض أن يؤكد أننا أمام صراع حضارات محتدم بيننا وبين هذا العالم المحيط.
وتكمن الإشكالية في أن طرح صراع الحضارات طرح يتنافى مع الحاضر الذي نعيشه والمستقبل الذي نصبو إليه، فنحن أمام عالم تمثل حضارة الغرب شقاً مهماً منه ولكنها ليست الشق الوحيد، فها نحن نرى شرقاً أقصى متقدماً وصيناً متوثبة، وفي سعينا لمواكبة هذا العالم لا يمكن لنا أن نضع أنفسنا في خانة المواجهة المستمرة والحالة المستعصية، فكل ما حولنا يقول إننا نتبنى هذه الحضارة الحديثة المحيطة بنا، وهي حضارة في مجملها تجاوزت وصفها بالغربية لتكون عالمية. وفي سعينا لتنمية المجتمعات العربية نسعى لنعرف ما هي التجارب الناجحة والممارسات المثالية في شتى الجوانب من السياسية إلى الاقتصادية إلى العلمية إلى التربوية إلى الاجتماعية وغيرها، ومثل هذه القناعات لا تتصل بفكر صراع الحضارات ولا يجب أن توصل به، فطموحنا تنمية الأوطان وسعادة المواطنين وهي لافتات عامة ينضوي تحتها الكثير من العمل والبرامج ودرجة عالية من الطموح، ومثل هذا المسعى لن يتأتى إلا من خلال فكر قائل إننا جزء من هذا العالم وجزء من هذه الحضارة، ونتنافس كما تتنافس العديد من الأمم والشعوب حول معايير غدت مؤشرات للتقدم الحضاري والإنساني.
أختم، بأننا ومن خلال تجربتنا الناجحة في دولة الإمارات، نعطي الدليل الواضح أن عالم اليوم بحاضره ومستقبله بعيد كل البعد عن طروحات صراع الحضارات، فالكثير مما تحقق هنا جاء من حكمة وتسامح وطموح ذات مكونات محلية وإدراك بأن الاستفادة من تجارب الآخرين ومن الحضارة الإنسانية المحيطة، تمثل مكونات التعامل مع المستقبل، وبالتالي لابد من أن نضع فصولاً كالأزمة الدانمركية في إطارها الصحيح، ألا وهو أنها فصول بشعة مسيئة، مصدرها فئات تؤجج لمنطق صراع الحضارات، ولابد بالتالي من التعامل معها بمنطق يأتي بالنتائج ولا يجنح للتطرف.