ضمن طرح فكري - فلسفي دعوني أشير إلى أن الوطنية تطورت عبر أعمق القوى الغريزية الأولية والعاطفية لدى البشر، وهي تتشكل ضمن آلاف الينابيع الخاصة بالانتماء المشترك، ومتجلية في اللغة والديانة والموروثات الشعبية والفلكلور والتقاليد والثقافة والآداب والفنون والشعر والموسيقى والمعتقدات وأساليب التعبير والخوف والولاء والبغض بصورها الممكنة، وهي تعبر عن نفسها في حب الوطن والولاء له، والذي هو ذاته يتشكل من حب الإنسان لأهله وموطنه وافتخاره بالإنجازات التي يحققها بني جلدته. لقد قاتل بنو البشر في سبيل الزود عن أوطانهم وراياتها.

وفي جوهر تلك الغرائز والعادات والأعراف يكمن وينبثق النداء الأبدي للاستقلال وعدم الخضوع للسيطرة الأجنبية. لذلك فإن إخضاع أي مواطنين في أية دولة من أعداء خارجيين أقوياء لإرادتهم هي واحدة من أقوى المسببات للحروب على الإطلاق. الأمم الأبية تهفو بشكل دائم إلى الاستقلال والحرية وتقرير المصير، وكلما تعرضت للمعاناة من قبل أعداء خارجيين كلما قويت عزائمها وشوكتها وزادت مقاومتها لمن يحاول الاعتداء عليها.

لقد انقضت آلاف السنين من تاريخ البشرية، وهي تتسم جميعها بأنها صراع من أجل الحرية والاستقلال، لذلك فإن الوطنية لا يمكن مسحها بمعركة واحدة أو هزيمة واحدة، فهي تتقد لكي تصبح أكثر قوة نتيجة لنشوب كل حرب وعقد كل صلح. وعليه فإن وطنية عارمة تنبثق من كل موقف صعب يمر به الوطن، ومن كل نصر أو إنجاز يحققه، إن الشعوب الأبية التي يهمها كثيراً الدفاع عن أوطانها ومقدساتها الوطنية ورموزها إلى حد التضحية بالمال والنفس والولد والتلد في سبيل ذلك، والمستعدة لخوض أعتى المعارك في ساحات الوغى هي الشعوب التي ترفض المساس باستغلال مقدرات أوطانها أو التدخل في شؤونها الداخلية أو المساس بحرية تصرفها كما تشاء، وفقاً لمصالحها الوطنية.

وعليه فإن الوطنية يمكن أن تكون سبباً لخوض الحروب، أو على العكس سبباً لتحقيق السلام والحفاظ عليه وللإسهام في بنائه والملهم لإحراز النمو والتقدم وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة.

وقيم الوطنية يكون المحرك الأول لها هو السعي نحو حرية الأوطان واستقلالها والتخلص من هيمنة الآخرين عليها والدفاع ضد العدوان تجاهها، فإن تلك أمور حميدة ولو قادت إلى الحرب. ما أعتقده أن الاستقلال الوطني والوحدة الروحية بين المواطنين والاعتزاز والفخر بالوطن وبناء الثقافة الوطنية الخاصة والحرص على الأداء الأمثل في الجوانب المتعلقة بوحدة التفكير والأهداف تجلب معها المزيد من التقدم المثمر ونمو واتساع المؤسسات الثقافية والبحث العلمي المميز ورقي مستوى الفنون والآداب.

الوطنية الحقة في تقديري في أحسن صورها تعبر عن الرضى والكمال. لكن من جانب آخر عندما تميل الوطنية إلى التطرف تصبح عليها التزامات صعبة تجاه تحقيق الأمن والسلام العالمي ويتواجد فيما بين الشعوب طموح جارف لتحقيق أمور أخرى في خارج حدود الوطن.

وتعتبر قيم الحفاظ على الكرامة الوطنية وتحقيق رفعة الوطن من الأمور المحببة والمطمئنة لدى المواطنين، فإيجاد مكان مرموق للوطن تحت الشمس، وهو حر معافى يعتبر أمراً باعثاً للفخر لديهم. لذلك فإن السياسة الخارجية لدولة الإمارات تعمل جاهدة على رسم خط وسط لذاتها يحفظ لها توازنها، وذلك من إدراكها بأن جوانب الحس الوطني الحميدة ضمن القوى المتحركة تتزامن مع إدراك مخاطر خارجية تأتي من كون الوطنية المتطرفة في أماكن أخرى جاهزة لكي تتحول إلى صيغ خطيرة، عندما يسود الطمع في أوطان الآخرين ومقدراتهم، فهي هنا سريعاً ما تتحول إلى ضروب من الإمبريالية والتوسع الخارجي غير المبرر.

وفي عالم اليوم توجد مجموعة كبيرة من الدول الوطنية التي تعيش ضمن مجتمع ونظام دولي، ويقع في قعر العاطفة الإنسانية لكل مواطن من هذه الدول اهتمام أساسي يتركز في أن مصلحة أوطانهم تقع فوق مصالح جميع الأوطان الأخرى وشعوبها وتسمو فوق كل شيء آخر، وإلى ما لا نهاية. الوطنية أو الحس الوطني إذن معضلة تواجه السياسة الخارجية لدولة الإمارات، وعليها التعامل معها في كل الأحوال ومن جميع الجوانب، لأن الحس الوطني بجميع جوانبه العاطفية سلبية كانت أم إيجابية، أمر قائم ومستمر طالما أن الإنسان حي يرزق على وجه هذه الأرض، وللحديث صلة.

* كاتب إماراتي