التنويم المغناطيسي الحضاري
عندما يتم تكريس مجمل طاقات البشر على الجانب المادي والمهني، ويتم تأطير التحضر وفق الإنتاجية الصناعية والمالية والتجارية والتقنية، وحجم ونسبة التملك للموارد المادية وتقييد الأبعاد الروحية والأخلاقية تحدث الفجوة بين شعوب تم برمجتها بنجاح على مدار قرون طويلة وأخرى جاءت مبادئ العولمة والحداثة التقنية لتفرض عليها الأمر الواقع، دون تحضير يضع احتياجاتها بعين الاعتبار وتجاهل قابليتها لتعايش القهري، وبالتالي تقسيم العالم بناء على المورث الغربي للطبقية، وتحويل الإدراك الخاص بثقافة ما لجعله إدراكاً عاماً على العموم لباقي الثقافات، وإقناع البشرية بأهمية أن يكون العالم مقسماً، وأن الاختلاف بين الشعوب هو الأصل، ونتيجته الطبيعية الصراع.
ولضمان التنوع الحضاري لابد من وسطاء لإدارة النزعات والصراعات في العالم . وكلما توحدت كلمة أمة ما يتم مباشرة تأجيج الصراعات والخلافات والحروب ومحاصرتها بالكوارث لترجع تحت وطأة هيمنة التقسيم الذي يضمن وجود أسواق استهلاكية ومستهلكين وممرات بحرية حيوية تحت الحراسة ومستعمرات غير رسمية للمواد والموارد الأولية والخام.
فقد تمت العملية بنجاح وحصرت الأمية في عدم الكتابة والقراءة، وإنْ كان الفرد يعيش بمبادئ أقرب للحيوانات المفترسة في الغابة، وهنا الفخ الذي تسير فيه الشعوب في طريق مستقيم يصل البعض فيه إلى آخر المشوار.
والبعض الآخر يسلك طرقاً جانبية تجعله يواصل التقدم نحو الأمام دون أن يعلم من وصل للطريق المسدود، أن هناك طرقاً جانبية تجعله يواصل المشوار. ومن هذه الجزئية بالتحديد برز «الاستحمار الثقافي»، حيث تكرس نسبة غير قليلة من الشعوب جل اهتمامها وحيزاً كبيراً من حياتها ووقتها للعبث في ظل القمامات الفارهة والأزقة الخلفية المخملية للظواهر، الأكثر تخلفاً إذا ما أُسيء استخدامها، كأن تستخدم بعض الثقافات بصورة كبيرة تطبيق مثل «تويتر» لنشر المعرفة والبحث العلمي والتوعوية المجتمعية وتطوير الجوانب الشخصية غيرها من الشعوب في المقابل تستخدم فئة كبيرة نسبياً فيها التطبيقات الذكية للتواصل الاجتماعي للفخر بالجنس والقبيلة والمنطقة ومنتج إعلام رقمي يصدر من أي فرد في المجتمع وخالي من الرقابة والتشفير وعبثي في الغالب وذلك على مدار الساعة.
تشربت الشعوب بفكر أن الحضارة ترتبط بالغرب مع استثناءات في الشرق وتعميم أن بعض الثقافات غير قابلة للتحضر، ولم تقدم للحضارة الإنسانية شيئاً يذكر بعد أن اختزل التحضر في المخرجات الملموسة، وتبيان قصور عقول ثقافات معينة عن انتاج المعرفة ووصول بعض الثقافات لاستنتاج غير حضاري، وهو أنها تابعة بالضرورة للآخرين وتقتات من فتات ما تعتبره مناسباً لطبيعتها، وهذا جعل بعض الشعوب تنظر لباطن الأرض وما الذي ستخرجه كي تعيش، وفي الوقت ذاته أصبح الاشتغال بالأفكار وتطبيقات تعظيم ثروات ما فوق الأرض واستغلال مصادر الطبيعية الظاهرة وغير المكتشفة كمصدر للثروة، أمراً جعل الإنسان بحد ذاته الاستثمار الأنجح والأكثر إبهاراً، وأصبح ذلك منهجاً عملياً للشعوب الأخرى.
وبسبب هيمنة الفكر الإبداعي والعلوم التطبيقية أصبح أغنى أغنياء العالم اليوم لهم مداخيل في الثانية الواحدة تفوق في المقابل مداخيل شعوب كاملة في الثانية الواحدة. وأضحت حقول البيانات والتطبيقات الذكية أهم مكونات الناتج المحلي للأمم. ويأتيك من يسألك عن جذورك العائلية، لكي يقرر كيف سيعاملك، ناهيك عن الانشغال بمعالجة التركيبية السكانية والهوية المفقودة في عالم تغير إلى غير رجعة، ولم تعد الأسرة تربي أبناءها بعد أن تم تنزيل برامج البرمجة العقيلة للأجيال القادمة بنجاح.
والأمم اليوم تعاني تأثير التنويم المغناطيسي الحضاري المقرر لها، وليس أمامنا في الحاضر سوى تمكين أصحاب الفكر الاستثنائي لتشخيص الداء والدواء لصناعة المستقبل المرغوب فيه، وهم أشخاص يتفهمون أن الأمم المتقدمة يكون فيها التقاعد مبنياً على التوقف عن انتاج الأفكار النوعية وقراءات المستقبل وفهم مؤشرات وتحليلات وتوجهات البيانات الكبرى، وتقدير المواقف الاستثنائية، وليس من منطلق سن الإنسان، والتغني بالإحلال القهري لتوظيف الخريجيين الجدد، وتصميم المناصب والهياكل لخدمة الأهواء الشخصية والأشخاص!
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات