عندما بدأت جريدة «نيويورك تايمز» ومن بعدها «واشنطن بوست» في عام 1971 نشر ما بات يعرف لاحقاً بأوراق البنتاغون (أو أوراق فيتنام)، وكذلك تم التعاطي معها شعبياً باسم أوراق مكنمارا، وزير الدفاع في عُهدتي كندي وجونسون. وكانت تلك الأوراق عبارة عن دراسة لتاريخ التدخل الأميركي في فيتنام منذ عام 1945 إلى 1967، والتي أوكل أمر إنجازها ميدانياً وسياسياً إلى مركز رند كوربوريشن Rand Corporation بتكليف من وزير الدفاع حينها روبرت مكنمارا . خلصت الدراسة للاستنتاج التالي: لا يمكن للولايات المتحدة تحقيق انتصار عسكري في هذه الحرب، وإن استمرار الإدارات المتعاقبة في الانخراط في هذه الأزمة هو قائم على رفضها القبول بالهزيمة عسكرياً. وكذلك كان حال الاتحاد السوفييتي نتيجة تدخله في أفغانستان.
وبمراجعة كافة تصريحات رؤساء الولايات المتحدة منذ الإعلان عن الحرب على الإرهاب إلى حين إعلان الرئيس بايدن الانسحاب من أفغانستان، فإننا سوف سنعيش حالة دي جافو De Ja Vu مماثلة لواقع تدخل الولايات المتحدة في فيتنام. عندما تُقدم الدول على تقديم كبريائها السياسي على مصلحتها الوطنية، فإنها تأكيداً ستجانب التاريخ، ويعد قرار الحرب على الإرهاب، والذي أعلنته الولايات المتحدة بعد اعتداءات 11 من سبتمبر 2001 هو الأكثر عبثية وإضراراً بمصالحها والاستقرار الدولي.
وبمراجعة تأثيرات تلك الحرب على الولايات المتحدة اجتماعياً واقتصادياً، فإننا أمام حالة حرجة من الانقسام الاجتماعي وصولاً لحدود مكوناتها العرقية. وحتى عندما جاء قرار الرئيس أوباما في 2010 برفع عدد القوات العاملة في أفغانستان بمقدار 30 ألف جندي، ولفترة محدودة بهدف دعم الوصول للأهداف السياسية التي حددتها إدارته، وجدنا أن تلك القوات الإضافية فشلت في الدفع باتجاه تحقيق أي إنجاز داعم لعملية سياسية حقيقة في أفغانستان. فنجاح عملية سياسية في واقع شديد التعقيد مثل الواقع الأفغاني، يعد تحدياً يفوق الأدوات السياسية وليس العسكرية، التي اعتمدتها واشنطن في إدارة هذه الازمة، وخصوصاً الاستمرار في اعتماد مبدأ مهادنة كل من باكستان وإيران بافتراض قبولهما مسؤولية دول الجوار القادرة. اليوم وبعد قرار الولايات وحلفائها الانسحاب من أفغانستان، نجد واشنطن ولندن تقرران نقل أعمال سفارتيهما من العاصمة كابول إلى مطارها الدولي بعد اجتياح «طالبان» لغالبية الولايات الأفغانية، فهل يعد ذلك تمهيداً لإغلاق السفارات في العاصمة والانسحاب كلياً من أفغانستان.
وهل تعد الكتائب الثلاثة الأمريكية بالإضافة للكتيبة البريطانية بمثابة قوة لتغطية ذلك، أم هي ورقة توت لتستر بها إدارة الرئيس بايدن حجم تخبطها نتيجة اعتماد مسار الدوحة التفاوضي مع طالبان، والذي لم ينتج إلا شرعنة الاعتراف الدولي بتنظيم «طالبان» الإرهابي.
التخبط الأميركي استراتيجياً هي سمة سياساتها الخارجية، وخصوصاً بعد إعلانها الانسحاب من أفغانستان إلى استمرار تخبطها في تطوير مفهوم يمكن التوافق عليه مع حلفائها الشرق أوسطيين في احتواء إيران وإعادة الاستقرار للمنطقة.
وأول الخطوات باتجاه ذلك هو تغير القاعدة المُستند عليها في تناول قضايا الشرق الأوسط من الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، إلى باقي الصراعات، والتي لطالما ارتكزت مقارباتها السياسية على الإرث الديني والطائفي للمنطقة. تأريخ التجربة الأميركية في أفغانستان قد عولج وبأكثر من شكل، والعالم لن ينتظر أوراقاً مماثلة لأوراق البنتاغون (فيتنام) ليكتشف الحقيقة، وكذلك الحال من قرار غزو العراق وصولاً لواقع شبه مستدام لحالة من عدم الاستقرار في عموم منطقة الشرق الأوسط والأدنى . لذلك فإن مسؤولية تخليق واقع مغاير يجب أن ينتج بإرادة إقليمية (شرق أوسطية)، وقد تمثل المواثيق الإبراهيمية المدخل المناسب إلى ذلك.
كاتب بحريني