لسنا بحاجة للعودة إلى الإحصائيات الرقمية، وهي متوفرة وموثقة لمن أراد البحث الجاد عنها، لنعرف حجم النسبة الكبيرة جداً من مجموع الشباب العربي الراغب في الهجرة.

هذا الشباب العربي نفسه الذي يشكل بتناقضاته المذهبية والعرقية وقود كل تلك النزاعات وهو نفسه المرجل الذي يحترق لضمان دفء الطغيان والاستبداد. في أوروبا. وبعد الأزمة السورية وموجة اللجوء الإنساني بحثاً عن حياة كريمة ولو كلف ذلك البعض حياتهم وأملاكهم وأوطانهم التي تركوها، التقيتُ شخصياً بوافدين كانوا ضد النظام السوري، وآخرين كانوا معه، وبينهما كان هناك تلك الفئة التي كانت تريد الحياة فقط لا أكثر.

احتضنتهم دول اللجوء، وما لم يكن مثبتاً على أي منهم جريمة إنسانية مثبتة، فإن غالبية هؤلاء اليوم مشاريع مواطَنة أوروبية في هذه الدول، يعيشون فيها بحقوق متساوية وواجبات متكافئة، وفرص عادلة نسبياً، لقد اندمج أكثرهم بنجاح ضمن مفهوم الاندماج الحقيقي في المجتمعات والأوطان الجديدة، مقابل فشل أوطانهم الأصلية في تحقيق هذا الاندماج ولو بالحد الأدنى.

ومن مفارقات الهجرة والمهاجر الأوروبية، أن العرب المحافظين (بغالبيتهم المسلمة بشيعتهم وسنتهم)، ينتخبون الأحزاب الليبرالية عادة، تلك الأحزاب التي تهتم بالبيئة والكوكب الأخضر، أو تنادي بحقوق النساء. كل هذا لا يقرأه هؤلاء الناخبون الجدد في برامج الانتخاب، ولا يرونه أصلاً، هم يرون في تلك الأحزاب قوانين أكثر انفتاحاً في المساعدات المالية، يرون فيها حقوق إنسان أكثر من غيرهم يهربون إليها ويلجؤون نحوها في أزماتهم الكثيرة، هم أنفسهم، بغالبيتهم، لا يهتمون بالبيئة.

في المواسم الانتخابية الأوروبية، أستمع باستمتاع وطرافة لأحاديث من أعرفهم من عالمنا العربي المحافظ والورع وهم يتداولون أسماء مرشحي الأحزاب الليبرالية والاجتماعية، مشددين على ضرورة التصويت لهم، لأسباب محصورة في المنافع المالية أو القانونية لو نجحت تلك الأحزاب في السلطة والتشريع.

وحين أجادلهم (ولم أعد أفعل ذلك مؤخراً) بأن تلك الأحزاب تنادي بكل ما يكفرون هم به، يكون الرد ببساطة «وما دخلنا بهم؟ هي بلادهم.. ونحن نبحث عن مصالحنا». المصالح التي يتحدثون عنها ليست ضمن مفهوم ومنطق مصالح «الجماعة الواحدة في منظومة الدولة الواحدة».. فهذا مفهوم مدني رفيع المستوى، يهمله بعض المهاجرين لصالح أثقال من الأساطير والأحمال التي يحملونها معهم، وينتهون أمام نشرات الأخبار الدامية «يتحوقلون ويسبحون» بالرزق الوفير، ويلعنون «الكفار» ومن والاهم، ويفشلون في كل مرة أن يكونوا مؤثرين حتى في الأوطان الجديدة وفي سياق إنساني عام. والفشل يكون أكثر تجلياً ووضوحاً، عندما يعجزون عن الانتماء إلى مجتمعاتهم الجديدة، التي تبلورت فيها مفاهيم الدولة والمواطَنة.

المحزن هنا، أنهم تركوا أوطانهم وأهلهم وذكرياتهم محبطين بسبب عدم توفر مفاهيم المواطنة والمدنية ودولة المؤسسات، لقد هاجروا لغيابها.. وغابوا عنها يوم وجدت. أحتار أين أضع شفقتي حينها.. على تلك الأوطان الجديدة أم على المفصومين بلا وعي. طبعاً، هناك استثناءات مضيئة (ومن بين نفس موجات اللجوء أيضا).. وهي محكومة بالأمل لأنها تتسع يوماً بعد يوم.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا