تجددت المظاهرات في فرنسا للأسبوع الرابع على التوالي احتجاجاً على قرار فرض الشهادة الصحية والتطعيم الإلزامي على مقدمي الرعاية. وابتداءً من هذا الأسبوع سيُسمح فقط لحاملي هذه الشهادة بدخول بعض الأماكن مثل المقاهي والمطاعم وصالات العروض والمعارض المهنية أو ركوب الطائرة والقطار والحافلات لمسافة طويلة. كما أقر المجلس الدستوري الفرنسي، الذي يعتبر أعلى سلطة قضائية في البلاد، غالبية بنود قانون توسيع استخدام الشهادة الصحية المثير للجدل. وأقر المجلس إلزامية تلقي التطعيم ضد فيروس كورونا للعاملين في القطاع الصحي في فرنسا. وبالمقابل، رفض المجلس فرض الشهادة الصحية على الأطفال القُصر. وحسب المحكمة الدستورية فإن القيود التي صوت عليها البرلمان الشهر الماضي «توازن» بين مخاوف الصحة العامة والحرية الشخصية. ولكن هذه المظاهرات ليست لصيقة بـ«الدكتاتورية الصحية» التي يقول المتظاهرون إن الرئيس ماكرون يفرضها على الفرنسيين في خرق لمبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة، وإنما هي ظاهرة فرنسية بامتياز. ففي السنين الأخيرة، تابع العالم ما قام به المتظاهرون أصحاب السترات الصفراء، والتي كان يتعين على جميع سائقي السيارات في فرنسا حملها في سياراتهم، وما وضعوه من حواجز محترقة وقوافل من الشاحنات بطيئة الحركة مما عرقل الوصول إلى مستودعات الوقود ومراكز التسوق وبعض المصانع. وكان المحتجون يعارضون الضرائب التي فرضها ماكرون على الديزل والبنزين لتشجيع الناس على الانتقال إلى وسائل نقل أكثر ملاءَمةً للبيئة. ومَن كان حاضراً في تلك الفترة في باريس وزار جادة الشنازيليزيه المشهورة لظن نفسه في ساحة تمثيل فيلم حربي هوليودي، فقد استخدمت الشرطة الفرنسية، ولأشهر متتالية، الغاز المسيل للدموع ضد متظاهري «السترات الصفراء».
وخلال السنين الأخيرة كانت هناك أيضاً مظاهرات فرنسية ضد إصلاح نظام التقاعد، في محاولة من النقابات والمضربين لجعل الحكومة ترضخ لمطالبهم وتُوقِف «النظام الشامل» للتقاعد الذي يُفترض أن يحل اعتباراً من عام 2025 محل 42 نظاماً تقاعدياً خاصاً معمولاً بها حالياً.
ولعل مَن زار فرنسا في تلك الفترة عاش مرارة الشلل شبه الكلي الذي أصاب حركة النقل بسبب تواصل الإضرابات. ومما يثير الاستغراب أن المظاهرات في تلك الفترة تمت رغم أن «النظام الشامل» للتقاعد لم ينشر ولم تُعرف حيثياته ولا ما في تعديلاته من آثار إيجابية أو سلبية! وعندما تكون هذه المظاهرات عامةً فإن حركة المواصلات تتوقف ويصعب التنقل من مدينة إلى أخرى، ويبقى الأجانب في الفنادق والمطارات في حيرة من أمرهم، وتُغلق الجامعات والمؤسسات التعليمية، ولا مناص من التوفر على دم بارد وعلى ميزانية مالية إضافية للأجانب حتى يتمكنوا من تغيير تذاكر الطائرة.
وبالنسبة للرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون الذي جعل من «تغيير المياه الراكدة» في فرنسا هدفاً لعهده، فإنه اعتاد على مثل هذه المظاهرات، لأنها تشكل ظاهرة فرنسية، ومع ذلك فهي خطيرة على المستقبل السياسي لحزبه. فالحكومة تجازف اليوم بفرض الشهادة الصحية والتطعيم الإلزامي في سياق اجتماعي متوتر أصلاً تطبعه تحركات محتجي «السترات الصفراء»، وحالة من الاستياء العام في المستشفيات وفي صفوف الطلاب وعمال سكك الحديد والشرطة والأساتذة والمزارعين.. وهذا النوع من الاحتجاجات يحمل إلى الشوارع حصته من التوترات والصعوبات خصوصاً لدى الطبقة المتوسطة.
منذ أكثر من أربع سنوات فاز ماكرون بالانتخابات الرئاسية، منتزعاً الحكم من اليمين واليسار، لأن الشعب الفرنسي لم يعد يثق فيهم ولا في أفكارهم ولا في أيديولوجياتهم، مما أحدث زلزالاً في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، وأوْضح أن مسألة الثقة هي من المحددات التي تطبع مسار تكوين الدول والمؤسسات. ولئن كانت المجتمعات السياسية مختلفة من بلد إلى آخر، فإن مدى تماسكها وقوتها على رد الرياح العاتية والمياه الجارفة، يكمن أولا وقبل كل شيء في الثقة، ويقيني أن انعدام هذه الثقة أضحى القاعدة العامة، وهو ما يؤثر على الجسم السياسي الفرنسي بأكمله.
أكاديمي مغربي