في مقال سابق، أشرت إلى أن السياسة الخارجية لدولة الإمارات تواجه في العصر الحديث ما أسميته بـ «القوى المتحركة»، وقمت بذكر عدد من تلك القوى التي من بينها العولمة المعاصرة.
إن العولمة، هي إحدى التحديات الكبرى التي تفرض نفسها بقوّة على السياسة الخارجية للبلاد، وهي في احتفاليتها الخمسين لقيام الدولة الاتحادية. والحقيقة أن العولمة المعاصرة لا تزال تفتقد إلى التعريف الدقيق الذي يوضح معناها ويشرح المقصود منها، وتوجد محاذير من أن تصبح فكرة وقتنا الحاضر الغامضة، فهي الفكرة الكبرى التي تشمل كل شيء تقريباً من القوة العسكرية، والقوة الناعمة والقدرة الاقتصادية والمعرفة التكنولوجية والصناعية وسوق المال العالمي والإنترنت، لكنها لا تقدم لنا نفاذ البصيرة المطلوب للمعرفة الدقيقة بأحوال البشرية. لذلك، فإن العولمة المعاصرة التي يتم الحديث عنها حالياً تعكس تصوراً ذهنياً بأن العالم آخذ في السير بسرعة نحو التشكل في صورة نطاق مشترك بواسطة قوى اقتصادية وتكنولوجية واستراتيجية وعسكرية ومالية، وبأن التطورات والأحداث التي تقع في منطقة من العالم لها تداعيات قوية لفرض الحياة الخاصة بالأفراد والجماعات في أجزاء العالم الأخرى.
بالنسبة للكثيرين ترتبط العولمة أيضاً بمعاني تتعلق بالجبرية، أي بالقضاء والقدر، وبعدم الشعور المستمر بعدم الأمان إلى درجة يبدو فيها نطاق التغير الاقتصادي والاجتماعي، وكأنه يفوق طاقة الحكومات الوطنية ومواطنيها للسيطرة عليه وكسبه كرهان، أو الوقوف في وجهه ومقاومته كتيار جارف.
وبعبارة أخرى، فإن العولمة بهذا المفهوم تعني محدودية السياسات الوطنية للدول بما فيها سياستها الخارجية، وبأن ما يحدث صار أمراً مفروضاً بالقوة من خلال مقولات العولمة. ورغم أن اللغة المنمقة المستخدمة حالياً حول العولمة قد تطال جوانب من طابع العصر الحديث الروحي والأخلاقي، إلا أنه يوجد نقاش أكاديمي - فلسفي ساخن يتسم بالأخذ والرد حول صلاحية العولمة كأداة تحليلية تقدم للبحث العلمي المستمر عن الحقيقة قيمة مضافة وفهم متكامل للقوى التاريخية التي تصقل الحقائق الاقتصادية والاجتماعية - السياسية الخاصة بالحياة اليومية للبشر.
ورغم وجود كم كبير من أدبيات العولمة المعاصرة، إلا أن ما يثير الاستغراب هو عدم وجود مقولات نظرية مقنعة لها، وعدم وجود تحليل نظامي منطقي لمظاهرها الرئيسية، فقليل من دراسات العولمة المعاصرة تقدم للباحثين سرداً تاريخياً يفرق بين ما هو آني وعابر، وما هو جوهري وراسخ، وينذر بظهور تغير في طبيعة وصيغ وتوقعات المجتمعات البشرية. وفي إطار الاعتراف بهذه النواقص يتطلب الأمر تطوير تفسيرات للعولمة المعاصرة يحتاجها صناع السياسة الخارجية في دولة الإمارات مثلما يحتاجها منفذوها، وربما يمكن أن يتم ذلك عن طريق الاعتماد على نهج فكري مدعوم بإطار تحليلي دقيق.
والإطار التحليلي المقصود، يمكن أن يصاغ في شكل تعاريف واضحة كمقدمات أولية لفهم حقيقة العولمة، ومن ثم الانتقال إلى سرد ماهيتها، وتحليل مدلولاتها بالنسبة للسياسة الخارجية لدولة الإمارات. إن هذه التعاريف والمقدمات يمكن لها أن توفر الأسس الفكرية اللازمة والمناهج القويمة لطرق التساؤلات الرئيسة التي تدور في أذهان القائمين على السياسية الخارجية والعاملين في ديبلوماسية دولة الإمارات، خاصة أولئك المتواجدين منهم في مستوى رسم السياسة الخارجية. بهذا الصدد يمكن طرح مجموعة تساؤلات هي: ما هي العولمة وكيف يمكن قولبة مقولاتها؟ وهل تمثل شيئاً يهم المجتمع الدولي قاطبة؟
وما هو موقع دولة الإمارات من ذلك؟ وهل هي فعلاً مرتبطة باتجاهات تدفع نحو الحد من سلطة الدولة الوطنية أم بزوال الدولة الوطنية ذاتها؟ أم بانبعاث جديد لها بتحولها إلى ظاهرة أخرى جديدة؟ وهل تفرض العولمة المعاصرة قيوداً على سياسات دولة الإمارات خاصة سياستها الخارجية؟ وكيف يمكن لدولة الإمارات أن تحول مظاهر العولمة المعاصرة إلى أوعية حضارية تستفيد منها وتعزز مصالحها الوطنية؟ هذه التساؤلات المحيرة تقع في صلب التناقضات التي تجد لها تعبيراً في الحوارات الدائرة حول العولمة وأثارها وتداعياتها على السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة. وللحديث صلة
*كاتب إماراتي