يُعتبر الشرق الأوسط مهد الحضارات والأديان. حضارات ما بين النهرين (البابلية والأشورية)، وحضارة وادي النيل (الفرعونية) وحضارة شرق البحر المتوسط (الفينيقية). كما أنه يُعتبر مهد الرسالات السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام.
أدى تداخل المخلّفات الفكرية للحضارات القديمة مع عقائد وتعاليم الأديان السماوية، إلى ظهور مجتمعات وحركات دينية وفكرية لا تزال مستمرة حتى اليوم، وأبرزها:
• المندائيون (سكان الأغوار في جنوب العراق)
• الزرادشتيون (في إيران والهند)
• الأزيديون (في شمال العراق وكردستان)
• الدروز (في سوريا ولبنان وفلسطين)
• العلويون (في سوريا وجنوب تركيا)
• الكلاشيون (في شمال باكستان)
• الأقباط (أكثرهم في مصر –حوالي 10 ملايين)
• السامريون (في الضفة الغربية من فلسطين -أقلهم عدداً: 750 شخصاً)
عندما رفع من أبوظبي البابا فرنسيس بابا الفاتيكان وإمام الأزهر الشريف الشيخ أحمد الطيب شعار «الأخوّة الإنسانية»، كان السؤال الذي يفرض ذاته هو: أين تقع هذه الجماعات من هذا الشعار؟
والواقع أن هذا السؤال طرحه عليّ أحد الأصدقاء من الطائفة الأزيدية في العراق، وقال: إذا كنا مرفوضين دينياً –عن جهل بحقيقة عقيدتنا- فهل نحن مقبولون إنسانياً عن علم بأننا بشر مثل بقية الناس؟
ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى محاولتان لبناء صرح الأخوّة الإنسانية، تمثلت الأولى في الرأسمالية، والثانية في الشيوعية. لكن الاثنتان فشلتا. كان فشل الرأسمالية بسبب تعذّر –بل استحالة- الجمع بين الحرية (حرية الاستثمار التي تحوّلت إلى حرية النهب)، والعدالة (لأصحاب الحقوق من المستضعفين).
وفشلت الثانية بسبب تعذّر بناء أخوّة على غير قاعدة الكرامة الإنسانية.
يشكل المسلمون (1.4 مليار نسمة) والمسيحيون (2.5 مليار نسمة) نصف عدد سكان الكرة الأرضية تقريباً. وقد عرفت علاقاتهم على مدى التاريخ حالات مدّ وجزر من التعاون والاقتتال. طوى المجمع الفاتيكاني الثاني (1965) صفحة الإلغائية التي كانت تتضمن الإسلام والأديان الأخرى. قبل المجمّع الثاني كان الدين هو المسيحية، وكانت المسيحية هي الكاثوليكية. كذلك استرجع المسلمون النصوص القرآنية عن المسيح وأمّه العذراء مريم، وعن الإنجيل الذي يصفه القرآن بأنه من وحي الله، وعن القسيسين والرهبان الذين وصفهم بأنهم أقرب مودّة للذين آمنوا.
أرست هذه القواعد المستجدة والجديدة مفاهيم إيمانية متبادلة كانت الأساس لبناء صرح الأخوّة الإنسانية.
وجاءت وثيقة أبوظبي تكريساً لذلك، ولتبيّن في بنودها المتعددة كيف تكون هذه الأخوّة، وكيف تُترجم عملياً. لم تستثنِ الوثيقة من الأخوّة شعباً أو جماعة أو أهل عقيدة ما. قالت بالإنسانية أسرةً واحدة، متعددة الأديان والثقافات. ومتعددة الألوان والعناصر. فالإنسان –المكرّم من الله لذاته الإنسانية (لقد كرّمنا بني آدم)- معني مباشرة بالوثيقة نصّاً وروحاً لمجرد كونه إنساناً.
لم تكن الوثيقة حقوقية، مثل وثيقة حقوق الإنسان (1948)، ولكنها صيغت لتكون وثيقة أخلاقية تنطلق من قيم روحية ومن معاناة وتجارب إنسانية مشتركة.
فالوثيقة تؤكد على مبدأ جوهري، وهو أن يَعبد إنسانٌ ما الله سبحانه وتعالى بطريقة مختلفة، فإن هذا الاختلاف لا يخرجه من الإنسانية ولا يسقط حقّه الإنساني ولا يجرّده من الكرامة. فالله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين. واحترام الاختلاف بينهم هو احترام للإرادة الإلهية. وترجمة ذلك في تعميم وثيقة الأخوّة الإنسانية لتشمل الناس جميعاً. فالأزيديون مثلاً متَّهمون بأنهم يعبدون الشيطان، وفي هذه الحال كيف يمكن أن يكونوا أخوة لنا في الإنسانية؟.. الحقيقة أنهم يؤكدون بأنهم لا يعبدون الشيطان، ولكنهم يتوددون إليه ليكفّ شرّه عنهم. فالشيطان الذي تمرّد على الإرادة الإلهية بعدم السجود لآدم، والذي توعّد بإغواء الناس جميعاً، يمكن مواجهته بإحدى وسيلتين، كما يقول الاعتقاد الأزيدي، إما المجابهة وإما المسايرة.. فاختاروا الثانية لأنهم ضعفوا عن ممارسة الأولى. ويقولون إن هذه ليست عبادة، وإن العبادة لله وحده.
وحتى الزرادشت المتهمون بعبادة النار، يؤمنون بأن الله نار ونور. وهم لا يعبدون النار لذاتها، ولكنهم يعظّمونها لأنها وسيلة لإدراك نور الله وناره.
كذلك فإن تأثر بعض المذاهب الإسلامية كالدرزية والعلوية بالفلسفة اليونانية (أرسطو وأفلاطون وفيثاغوروس) هو تأثر في البحث عن وسائل معرفية لإدراك الذات الإلهية من خلال المنطق، وهم في الأساس يتمسكون بالنصّ القرآني قاعدةً ومرجعاً. وكان ممثلوهم حاضرين في أبوظبي يوم التوقيع على وثيقة الأخوّة الإنسانية.
صحيح أن بعض هذه الممارسات بعيد عن القواعد العامة للإيمان الإسلامي والمسيحي، إلا أن الحكم في نهاية الأمر هو لله وحده، كما يقول القرآن الكريم.
ولأن الحكم الإلهي لن يصدر إلا يوم القيامة –وكما يقول القرآن الكريم أيضاً- فليس لأيّ إنسان أن يحكم على ما في ضمير الإنسان الآخر. وهكذا تبقى علاقات الأخوّة الإنسانية مصانة بين الناس رغم الاختلافات والتباينات الكثيرة والعميقة.
يقول الإسلام بقاعدتين جوهريتين: الأولى أن الناس أمة واحدة، «خلقهم الله من نفس واحدة». والثانية أن الإيمان متعدد ومختلف، «لكم دينكم ولي دين». وهذا يعني في الحسابات الأخيرة أن تعدد الأديان لا يلغي وحدة الإنسانية.. فالتعدد قائم أساساً في الوحدة.