أبوظبي (الاتحاد)
ظَل ظل شربات جولا «موناليزا افغانستان» يطارد خيال مصوري ومراسلي الصحف والوكالات ومحطات التلفزيون العالمية في أفغانستان من أول يوم وصلت فيه طالبان إلى كابول.. فطاردوا بعدساتهم وجوه النساء والأطفال وحتى الرجال، بعيونهم الملونة واللحي المسدلة، لعل وعسى يظفرون بلقطة تخلدهم في تاريخ الصحافة.. لكن المفارقة أنه في غمرة انشغالهم بشبح شربات هذه، فاتتهم أهم لقطات في الحدث الأفغاني كله، بل وربما أحد أهم اللقطات في تاريخ الصحافة خلال العصر الحديث.. وبالتحديد المشاهد المأساوية المروعة في مطار كابول لحظة تدافع المئات للصعود على متن أي طائرة تنطلق بهم خارج أفغانستان يوم سقوط البلد بأكمله في ايدي طالبان.
كانت شربات جولا الفتاة ذات الـ 12 ربيعا قد خطفت بعينيها الساحرتين الغامضين في صورة التقطتها عدسة المصور الأميركي ستيف ماكوري، اهتمام العالم كله عام 1985 عندما ظهرت على غلاف مجلة ناشيونال جيوغرافيك.
جابت قصة جولا الآفاق، دون أن تدري، بما فعلته صورتها التي التقطها ماكوري مصادفة في مخيم للاجئين بباكستان، ولم يكن أحد يعلم عنها شيئا سوى أنها لاجئة فرت مع عائلتها من وجه الاحتلال السوفييتي. تعاملت الميديا الغربية معها كما لو أنها واحدة من شخصيات ألف ليلة وليلة ، آتية من عصور سحيقة ، تحكي بإطلالتها الغامضة والجرئية والبريئة في الوقت نفسه كل سحر الشرق القديم. وتجددت قصتها مرة أخرى عندما قررت مجلة ناشيونال جيوغرافيك في 2002 البحث عنها، بعد سقوط طالبان، وبالفعل تم الوصول إليها بعدما تبدلت بها الأحوال وترك الزمن اثارة واضحة عليها. كانت حينها في الثلاثين من العمر.
وعلى مدى سنوات التالية، تواصل الاهتمام العالمي بقصتها خاصة بعدما اعتقلتها باكستان في 2017 للإقامة بطريقة غير شرعية، حتى تكرست بالفعل كأسطورة إعلامية، تشبه بطريقة أو بأخرى «فتاة النابالم» الفيتنامية، كيم فوك فان ثي التي صارت أيقونة للحرب الأميركية في فيتنام بصورتها وهي طفلة تفر عارية والنيران تلتهم ظهرها خلال القصف الاميركي عام 1972، عندما كان عمرها 9 أعوام.
لكن هذه المرة هزم الجمهور الصحفيين.. نعم. فقد فاز باللقطة الاستثنائية للحدث أشخاص عاديين التقطوا صورا مروعة لتدافع شباب ورجال ونساء على مدرج مطار كابول، عندما أخذ بعضهم يسقط تحت عجلات الطائرات المندفعة أو يهوى منها بعدما انطلقت تحلق في السماء. وخلال ساعات محدودة انتشرت مقاطع الفيديو التي سجلت هذه اللقطات، كالنار في الهشيم واحتلت الصفحات الأولى وتصدرت نشرات الأخبار، وهزت العالم كله، وقلبت الطاولة أمام الإدارة الأميركية ومراكز صنع القرار في مختلف عواصم العالم.
عبر هذه اللقطات بالتحديد، أدرك القادة والرأي العام العالمي بعضا من جوهر المأساة المروعة في أفغانستان.. هذه المرة لم تكن الصور بعدسة مصورين محترفين، بل بكاميرا هواتف بسيطة للغاية على الأرجح - لكنها في الواقع شديدة الذكاء - لأشخاص عاديين كانوا بطريقة أو بأخرى شهوداً وأطرافاً في مأساة حية لم يتح للصحفيين المحترفين متابعتها عن قرب، لأن كل منهم كان مشغولاً فيما يبدو بالبحث عن «شرباته».