لكبيرة التونسي (أبوظبي)
أرضه كانت وما زالت رمزاً للخير والكرم، فيها تزهو الطبيعة وينطق التاريخ، كل شيء فيه يتحدث عن كفاح الأجداد الذين استطاعوا تحويل الصحراء إلى واحة خضراء، بفعل إرادتهم وحبهم الصادق لوطنهم، ما زالت أماكنه التاريخية ومخزون تراثه الإنساني والحضاري ماثلاً أمامنا إلى اليوم، رغم اندثار جزء من مبانيه القديمة، إلا أنه ما زال راسخاً في ذاكرة أهله.
إنه فريج «المعترض» في مدينة العين الزاخر ببساتين النخيل والمزارع التي كان يقصدها الناس للعيش وقضاء وقت الصيف، رمز الجار المؤتمن والصديق الوفي، ومدرسة القيم والسنع، واحترام الكبير والعطف على الصغير، فيه عاش الناس زادهم الحب والمودة والرّحمة، ورغم بساطة العيش ملأت قلوبهم السعادة وتوشحت حياتهم بالفرح.
عائشة الذيب الشامسي تتحدث عن «المعترض» فريج النخيل والأفلاج والعيون والمواقف الإنسانية النبيلة، مؤكدةً أنها لن تنسى ذكرياتها حيث عاشت وترعرعت. تكوّنت بيوته من العرشان في الصيف والخيام في الشتاء، عاش أهله على الزراعة وتربية «لحلال» امتلكوا بساتين النخيل، يأكلون من أرضهم، ويتصدقون من خيراتها ويتقاسمون مع جيرانهم ما تجود به من خيرات، واعتمدوا على أنفسهم في تجهيز ملابسهم والقيام بأعمال البيت، وقد اشتهر بمياهه الجارية العذبة وزراعة القمح، بساتينه خضراء يانعة طوال السنة، وشكل نقطة جذب كبيرة للناس، بينما كان سوق العين وجهة لتزود أهله بكل ما يحتاجونه من مؤونة.
البيت الكبير
وبدأت الشامسي روايتها بوصف بيوت «المعترض» التي كانت عبارة عن عرشان وخيام، كلها متلاصقة، ولا يدخل في بنائها الطابوق، يتقاسم أهلها حلو الأيام ومرّها، في تأكيد على وحدة العيش وبساطته.. وقالت: أذكر من تلك الأيام البيت العود لكبير رجال الفريج الشيخ سلطان بن سرور الظاهري الذي كانت مشورته واجبة على الجميع، وفي مختلف الظروف، وكان يستقبل الناس في بيته، ويصلح بينهم ويبارك تكاتف الجيران في مساعدة بعضهم بعضاً وتبادل الخيرات، موضحةً أن بيوت «المعترض» تعاون أهلها على بنائها، وتتميز بفتحاتها التي تسمح بدخول الهواء في الصيف، أما في الشتاء فإنها تبطن من الداخل لتضمن الدفء لسكانها، موضحةً أن أغلب الناس كانوا يسكون في الخيام والعرشان، بينما تقتصر بيوت الطين على التجار والميسورين، لافتةً إلى أنها عاشت في بيت الشيخ سلطان بن سرور الظاهري الذي ما زال يحافظ على طابعه الأصيل، ويشكل علامة من علامات فريج المعترض، مؤكدةً أنه كان يستقبل الناس يومياً بكل حُبٍّ في مجلسه، حيث عاش الناس على البساطة وجمعهم الحب والتفاهم والمودة.
قيمة تاريخية
وعندما تتحدث الشامسي عن فريج المعترض، فإنها تستدعي تاريخاً وثقافة عريقتين، وتوثق حياة الأجداد الذين كافحوا من أجل تعمير هذه الأرض الطيبة، فتحت خزائن ذاكرتها وشرعت باباً على ذكريات الطفولة التي عاشتها وسط بساتين النخيل والمياه العذبة التي كانت تشهدها المنطقة آنداك ومختلف مناطق الدولة، حيث كان يقصدها الناس للاستقرار حول المياه التي كانت تزخر بها المنطقة كالأفلاج والنخيل، وبالحديث عن طبيعة الحياة في فريج «المعترض»، أكدت أن البيوت كانت مفتوحة تستقبل الكبير والصغير، لافتة إلى أن فريج المعترض جمع أهله التكافل والمحبة، وكانت الحياة بسيطة وسعيدة، وحظي فيه الأجداد بمكانة كبيرة، وتميز بتواجد الأسرة الممتدة، حيث كانت الكلمة الأولى للجد والجدة، وساده احترام الكبيرة والعطف على الصغير، بينما تحرص الأم على تعليم بناتها جميع تفاصيل الحياة، من أشغال البيت، حيث إن الفتاة وعلى عمر صغير لا يتجاوز 12 عاماً تكون قادرة على تحمّل المسؤولية، حيث لم تكن الأمور توكل إلى الخدم، فالمرأة تخيط ملابسها بنفسها، وتقوم بأعمال بيتها، وتعمل داخل البيت وخارجه، بينما كان الشاب يرافق والده ويتعلّم منه الشجاعة والسنع واحترام الكبير وتوقيره، ما جعل الحياة الأسرية تعرف فيه الاستقرار.
أفراح
وفي ذات السياق أكدت الشامسي أن فريج «المعترض» ساده التعاون في جميع المناسبات، ففي الأعراس مثلاً يقوم الفريج على ساق واحدة، وينخرط الجميع في الإعداد للفرح، يطحنون القمح في الرحى، ويعدون الخبز والدهن والعسل، والتمر والقهوة، بينما تخيط النساء الملابس، ويجلبون ما يحتاجونه من مؤونة من سوق العين، الكل يهب لمساعدة أصحاب العرس، كانت حياتهم بسيطة وسعيدة، موضحةً أن المهر لم يكن يتجاوز 200 درهم لدى الأغنياء والتجار، أما البسطاء فأقل من ذلك بكثير، كانت النساء تجتمع عند أم العروسة التي تستقبلهم بالزعفران الذي تجهزه أم العروسة والمدخن والعطور، بينما يذبح الرجال الذبائح ويطبخونها على «الضو» الحطب، وخلال الأيام العادية، فإن الناس تأكل من أرضها، وتذبح من ماشيتها ويساعد غنيهم فقيرهم، يشربون اللبن ويأكلون التمر، ويزرعون القمح ويطحنونه في الرحى، ويعتمدون على الزراعة، حيث تزخر مزارعهم وأرضهم بالنخيل وأنواع كثيرة من الخضراوات.
القيظ
كان المعترض إلى جانب بقية الفرجان في مدينة العين يشكل واحة لأحلام كل من يقطع الطريق متجهاً إليها من مدينة أبوظبي، أو من أي مكان في دولة الإمارات وبقية المناطق، إذ وثق رحلات «القيظ» التي ما زالت مجرياتها محفورة في ذاكرة الإماراتيين، والتي تعدّ من الطقوس المهمة التي اعتادها سكانه قديماً للاستجمام بعيداً عن القيظ وشدة حرارته، وارتبطت هذه الرحلات بذكريات وحكايات وقصص، حيث قالت الشامسي: حالما كانت تلوح بوادر الصيف بحرارته العالية كنا ننتظر قدوم أبناء المدن الأخرى لقضاء فترة (القيظ) والاستمتاع بالنسمات العليلة والظلال الوارفة في واحات النخيل، ومياه الأفلاج العذبة وفواكه الصيف، أول ما تبشر النخيل، ويكون أول منتوج لها ويسمونها «البشارة»، ويسعون للسكن بقرب ماء الأفلاج لعذوبتها، ويأكلون من ثمار النخيل التي تعدّ قوتهم الرئيس، يأتون معهم بالسمك وشرائح لحم بقر البحر الذي يذبحونه ويملحونه إلى جانب القباب والتونة، يبيعونه ويدفعون بثمنه سلعاً أخرى يأخذون معهم عند عودتهم مثل «اللومي» والفحم والحناء والبهارات والقمح، وما زلت أذكر أسماء عوائل من أبوظبي الذين يأتون كل سنة إلى المعترض على «ركاب» كنا ننتظرهم بشغف، ونمارس الألعاب الشعبية مع أولادهم وسط المزارع وبساتين النخيل. ومن أوجه التعاون أيضاً أشارت الشامسي إلى أنه كان هناك راع للأغنام، يتفق معه أغلب سكان الفريج بأن يرعى أغنامهم، ويبدأ رحلته منذ الصباح الباكر، ويعود بهم قبل أن يحل الظلام.
الأفلاج
إلى جانب الأمطار الغزيرة التي كانت يشهدها الفريج في تلك الفترة، فإن الأفلاج شكلت مصدراً رئيساً من مصادر المياه العذبة، حيث لعبت دوراً مهماً في توفير المياه على مدار العام لسكان المعترض وبقية سكان مدينة العين، وهكذا اعتمدت الحياة عليها قديماً واستقر المقام، حيث وجدت الأفلاج، وظلت حتى اليوم رمزاً تراثياً يربط الحاضر بالماضي، وأكدت الشامسي أن الواحات كانت تتضمن مجاري مياه، حيث يعمل ذلك المجرى المائي على توفر كميات من المياه تكفي لأعمال ري البساتين، حيث برع الأقدمون من أهالي المنطقة وتفننوا رغم إمكاناتهم البسيطة في إيجاد السبيل للحصول على الماء لسد حاجتهم منه في إطار من التعاون والتفاهم.