في سنيّ المراهقة التي مضت كنّا نستلذ بجلدِ ذواتنا، نستمع للأغاني المشحونة بالألم والوجع والحزن، وكنّا نقرأ أشعاراً عن العناء والسهر، نتابع الأفلام التي يلعب بطولتها النجوم مثل محمود ياسين، وحسين فهمي، ونور الشريف ونجلاء فتحي وسعاد حسني وفاتن حمامة، الجيل الرومانسي الذي أخذنا معه في عوالم لم نكن نعرفها، لكنّنا عشنا تفاصيلها السينمائية بكل إعجاب ومحبة، وكأنها نحن، رغم أنه ليس لنا علاقة بالأمر نهائياً.
ولشدة الرومانسية التي كنّا نتصورها ويهيئ لنا أننا نعيشها، كان التصرف البسيط من الأقربين، أسرة، أصدقاء، يسبب لنا ألماً عنيفاً، وهو بالكاد يؤثر في الأصل لأنه بسيط، ونروح نكتب في دفاترنا «لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً، فالطيرُ يرقصُ مذبوحاً من الألم» وطبعاً «لا الطير درى عنّا ولا الألم»، وإمعاناً في المزيد من الأذى النفسي نروح باتجاه الراديو نرقبُ وصلة الظهيرة للسيدة أم كلثوم، ونهيم معها «يا ظالمني، وما من أحدٍ ظُلِم، ويا مسهرني، وليس هناك سبب للسهر»، «نحط رؤوسنا من المغرب ونرقد».
كثيرة هي المواقف التي عشناها في الصبا ببساطتها وعفويتها وبراءتها، علاقاتنا الإنسانية، تواصلنا، معايشتنا للآخر، الوجع الذي نشعر به حينما يتألم فرد في الجوار، كان للجيرة حقّها وحقوقها وآدابها، كانت البساطة أساس الحياة، والتواصل وقودها، كان الحب قيمة مشتركة بكل ما تحمل هذه القيمة من سلوك، أو إحساس، أو تعبير، تعايش الجميع في بيئة خصبة للتعاون، والفرح، لم يُفسد تلك الحياة الجميلة مصوّر عابث، أو مشهور فارغ، أو متطفل يبحثُ عن مكانة أو قيمة «بالغصب».
تلك الحياة التي مضت لم تعد هي اليوم، فقد اختلت الكثير من الموازين، ولم تعد هناك قواعد قيميةّ أو أخلاقية عند بعض الناس الذين استسهلوا الصعب وراحوا يعبثون بجراحات الناس وعذاباتهم، فنحنُ نعيش زمناً لا يُحترم فيه المريض على سريره الأبيض، لأن الكاميرات مستعدة لالتقاط صورته وهو تحت أجهزة التنفس، أو داخل غرفة العمليات، أو وهو يُنازع حتى التي لدغتها بعوضة صوّرت براطمها للناس كي يدعو لها بالشفاء.
لم تعد للخصوصيات حُرمتها، المُتوفى يُصوّر، أسرته في أوج انكسارها تُصور، المُصاب يُصور، إنهم الراقصون الجدد على الألم، هم لا يُشبهون رقصَ المراهقين القديم على أوجاع مُتوّهمة، لكنهم يرقصون على آلام الناس، وأوجاعهم الحقيقية وهو أمر من العيب أن يستمر، فللمريض احترامه، وللميت حرمته، وللمجتمع تقديره، فهل يكفّ أولئك المتربصون بمتاعب الناس عن أذاهم بذريعة استجداء دعاءٍ قد لا يكون خارجاً من القلب.