منذ الجاهلية اكتشف الشاعر أن الشعر بضاعةٌ، وأنها قابلة للدخول في معادلات العرض والطلب، ونجح النابغة والأعشى في عرض بضاعتهما على ملوك عرب الشمال، وتكررت اللعبة في العصر الأموي، حيث وجد الشعراء صالات عرض مربحة في بلاطات الخلفاء وانكتب تاريخ مديد لشعر المديح حتى أصبح هذا النوع من أوسع أبواب الشعر، ومن تفوق فيه ذاع صيته وتعزز مقامه، وفي أوروبا حظي بهذه المنحة الرسامون ونتج عن ذلك تاريخ عظيم للفن حين أصبح الفن مطلباً للقصور والبلاطات.
يتكرر المشهد في الثقافة المعاصرة عبر بدعة «الأكثر مبيعاً»، وهي البدعة التي تخصص الصحف العالمية لها باباً كأنه البلاط الافتراضي، وكلما صعد كتاب في صدارة الأكثر مبيعاً تفتحت الأبواب كلها لهذا الكتاب في المبيعات والترجمات والطلبات، ويقاس النجاح بعدد الأسابيع التي استحوذ عليها الكتاب، ومثل ذلك في الأغاني والعشر الأول في القمة ومدد تمددها. والحال نفسها تحدث مع مشاهير الـ «سوشال ميديا»، حيث تلعب معادلة العرض والطلب دوراً في اصطناع تيارات جديدة وتذوقات مفاجئة، وقد يغامر فتى أوفتاة بتجربة لم تكن في الحسبان ويحدث أن تلفت النظر وتنجح في التسويق، فتهب مغامرات مماثلة مقتفية أثر العينة التي نجحت مصادفةً في البداية، لتصبح بذلك، وكأنها قانون الذوق والطلب الجديد، وغالباً تتقلب الصدارات فيها، وتبعد شخوصاً وتجلب غيرهم بدورات يتحكم فيها قانون العرض والطلب، وكلما ازداد الطلب على شيء ما زادت العروض فيه ليفوز بعض ويتصعب الفوز على بعضٍ آخر، ولن يسهل هنا تشخيص أسباب الفوز وأسباب الكساد سوى أن الفوز والكساد يقرران مصير كل فرد، والفرد نفسه لن يعرف كيف يضمن النجاح، لأن النجاح هنا يخضع لاستجابات الذوق العام المنفرط وغير المنضبط، ولكن الثقافة وحدها المتنفذة عبر نسقها الذي يخفى كسبب، ولكنه يظهر كنتيجة، وفي الأخير، فإن المال هنا هو الجوهر، وكل ما يجلب المال، فهو الحقيقة الثقافية، وقد كان ذلك في القديم مع الشعر ومع الفنون، وهو اليوم مع العروض على شاشات مفتوحة تشبه البلاط القديم الذي إذا انفتح لشاعر أوصله لصرة المال وصرة المجد والأمر نفسه اليوم، غير أن بلاط اليوم ينفتح ويغلق بتوجيه من ذائقة عامة لا دليل عليها سوى تجريب طرق بابها، ومن انفتح له باب انفتحت له الوجاهة بصيغتها المجددة.
وإن كان الطلب قديماً في شعر المديح تقوى، لأنه يعزز الصور الذهنية في الكرم والشجاعة والدهاء، وهي سمات تعشقها الثقافة وتحفز لها، كما تفعل مع ترقية الذوق في الفنون، ولكن موجات الـ «سوشال ميديا» تتجه غالباً للمتعة العابرة، ولذا ما تلبث الشهرة أن تنتقل من فرد وتطفيه لتشعل شمعة آخر فيأخذ دوره تمهيداً لتبديله بغيره، وهكذا.