محمود إسماعيل بدر (أبوظبي)
تواكب «الاتحاد» الروايات المرشحة للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية في نسختها الرابعة عشرة لعام 2021، التي تُعد من أهم الجوائز الأدبية المرموقة في العالم العربي، وتدار بالشراكة مع مؤسسة «بوكر» في لندن، وبدعم من دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي. وتهدف إلى مكافأة التميز في الأدب العربي المعاصر، وزيادة الإقبال على قراءة هذا الأدب عالمياً من خلال ترجمة روايات القائمة القصيرة إلى لغات رئيسة. ومنذ انطلاقتها في العام 2007 كسبت ثقة القراء والنقاد والناشرين العرب والأجانب، ودلتهم على أعمال عربية جديدة ونوعية.
رواية «جيم» للكاتبة الجزائرية سارة النّمس، تصلح لأن تكون فيلماً سينمائياً شائقاً، أو مسرحية ديالوج من نوع «تراجيدكوميديا». تدور أحداثها حول شخصيتين هما الفتاة جيم، والشاب أمين، اللذان يلتقيان مصادفة في حافلة متجهة نحو مدينة وهران إلى منطقة «تامنراست» الجنوبية عاصمة الهقار في الجزائر، وكلاهما يبحث في قرارة نفسه عن حياة جديدة، لتجاوز مأساة شخصية وقعا فيها جرّاء ظروف اجتماعية قاسية، تتراوح بين ظروف العشرية السوداء (يناير 1992)، ووضع اجتماعي مزرٍ، وحديث عن الحياة والأمنيات والأحلام، أشبه ما يكون بـ «الفضفضة».
تبني الكاتبة سردها المتكئ على الذاكرة التي تلعب هنا دوراً أساسياً في انطلاق الشخصيات نحو البوح والانكشاف، وغوص كل من البطلين في أسرار الآخر، عبر رواسب الماضي، وما يحمله من غموض وأبعاد نفسية وتاريخية منسابة في نسيج روائي بديع.
أقامت الكاتبة تقنيتها على مفردة تبادل الأدوار، ولذلك من الطبيعي أن تكون هناك حكايتان في رواية واحدة، فرحلة طويلة كهذه كان لا بدّ أن تحدث تقارباً بين الفتاة والشاب، بما يكفي ليقول كل منهما حكايته، ولكي تكون النمس أكثر صدقاً، جعلت الأحداث الدامية في العشرية السوداء أساساً في الكشف عن الأبعاد النفسية والتقلبات المزاجية لبطلي الرواية، في بيئة غرقت يوماً في الألم والخوف والخسارات والانكسارات الفادحة، فلقد كان لتلك الفترة الأليمة من تاريخ الجزائر النضالي تأثيرها البالغ على الجميع، وما إعادة استخدامها في عمل روائي، إلا استثمار ذكي لتحليل ما ترسّب كجزء من ذاكرة ماض لا يزال يحفر في الذاكرة الجمعية.
وكان اختيار الكاتبة مدينة «تامنراست» الصحراوية، بعد أن أثثت له ليكون فضاءً غامضاً ومختلفاً، ومناسباً في الوقت ذاته لمزاج المغامرة والاختباء إلى الداخل للشخصيات ذات الهويات الهاربة، باعتباره مكاناً ملهماً، بل وإلى العزلة بالنفس لأجل تقييمها وتحليلها ومحاولة معالجتها من هواجس معذّبة.
ويحسب للكاتبة أنها تجاوزت في رسمها لشخصية بطل الرواية القيمة المادية والأخلاقية للجسد، إلى قيمة فكرية تمنحه صفته الأدبية، لهذا نجد أن حضوره في الرواية مغاير ونوعي عن بقية السرود النّسوية العربية، فالبطلة «جيم» على الرغم من جاذبية جسدها، فهي لم تتعامل معه للاحتفاء الأنثوي والإثارة، بل جعلته يدخل في علاقات متعددة مع ذاتها والرجال، بصفة معطى وجودياً.
سواء أكان السرد في هذه الرواية النفسية بالصيغة الكلاسيكية أو بصيغة اليوميات، فإنّه يتم بلغة روائية رشيقة، تغلب عليها الجمل المتوسّطة، ما يمنحه السلاسة والطلاوة، ويأتي تأريخ بعض الوقائع ليوهم بتاريخية جزئية تضفي على النصّ الصدقية، وتحيل الأمثال الشعبية القليلة المستخدمة فيه إلى عالم مرجعي شعبي في جانب منه.