الثلاثاء 12 أغسطس 2025 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
التعليم والمعرفة

في القطار

في القطار
3 فبراير 2020 02:36

في عربة قطار مهترئه وسط زحام وكأنه يوم الحشر، تجلس بجوار والدتها وعيون تقتحمها من كل حدب وصوب. تحاول أن تتجاهل كل شيء وأي شيء، فما فيها يكفيها. لم تعد قادرة على الحديث والصياح والتفكير، لم تعد قادرة حتى على الغضب.
تغمض عينيها للحظات فيزورها طيفه فتلعنه لعنة محب كاد أن يجننه الاشتياق والغضب في آن واحد، فتقرر أن تهرب من طيفه وتتأمل الجميع حولها كي لا تفكر فيه.
تفتح عينيها فتجدهما أمامها، شاب يبدو في العشرين من عمره يحمل ملامح القرية في وجهه، يشبه الكادحين وأبناء الطبقات المستضعفة في هذا الوطن، لا يميزه شيء سوى شارب نحيف أسفل أنفه، يلف ذراعه حول طفل في نحو العاشرة من عمره يشبهه إلى حدٍ ما، ولكنه أكثر تميزاً ووسامة.
لفتتها عيناه البنيتان وبشرته البرونزية وكأنه فرعون صغير، شعره مجعد، ويده تنم عن شقاوة حاولت أن تتخيلها. خمنت أنهما أخوان أو ربما أقرباء، سحرها هذا الفتى، وظلت تنظر إليه وهو يعبث بنافذة القطار ولم يعرها انتباهاً، ولم ينظر إليها سوى نظرة عابرة، عكس ذاك الشاب الذي ظل يتفحصها بنظرات سافرة لم يعكرها سوى صوت القطار وبعض نداءات الباعة الجائلين.
فجأه تحدث الشاب إلى الصغير متسائلاً ما إذا كان يريد شيئاً، فأجاب الصغير أن لا شيء سوى بعض الماء، فأسرعت هي تعطيه الماء ليشرب. أخذ منها الزجاجة وتناول بعض قطرات، وأعادها إليها دون أن ينطق ببنت شفة، وعاد يعبث بنافذة القطار مرة أخرى.
فتحدث إليها الشاب العشريني قائلاً: (ثلاثة عشر عاماً وثماني عشرة جريمة).
لم تستوعب ما يقول، فقالت له: ماذا؟
فأجابها مكرّراً الجملة: ثلاثة عشر عاماً وثماني عشرة جريمة، أنا ذاهب به إلى الأحداث. لم تعلم ما أصابها؟ ذهول أم صدمة أم حزن أم ثورة على هذا الواقع وعلى الإنسانية التي ضاعت.
وظلّ يتحدث إلى والدتها التي أجهشت في البكاء حزناً على الفتى، وعندما سألته عن أهله قال لها: يا سيدتي لو نعلم له أهلاً لذهبنا به إليهم.
كانت تظنهما أخوين، لم يخطر ببالها لحظة أن يكونا مجنّداً وحدثاً.!!
حاولت أن تمنع نفسها من البكاء، ولكن خانتها دموعها ولم تستطع. تمالكت نفسها وابتسمت ثم تحدثت للصغير لتعرف اسمه فقال لها (أشرف).
أشرف، كم يحمل اسمك من المعاني النبيلة.
حاولت محادثته قائلة: أتدري أشرف كم أنت جميل، فأنا منذ رأيتك لم أرفع عيني عنك، محدثةً نفسي: كم هو جميل هذا الفتى! ليته كان كبيرًا كي يغازلني!.
فاختلس ابتسامه خجولة، وعاد ينظر إلى النافذة من جديد.
ثم تحدث إليها المجنّد قائلاً: لا تحزني يا آنسة، فسوف يتم تأهيله، ويصبح شخصاً جيداً. وفي هذه الأثناء لم تتوقف والدتها عن البكاء، وجاء شاب كان يختلس السمع إليهم وأعطاه بعضاً من الحلوى التي أخذها بعد إلحاحهم جميعاً.
أخرجت من حقيبة يدها مفكرتها وكتبت في إحدى ورقاتها (أنا أشرف سأصبح إنساناً جيداً). وأعطته الورقة، وقالت له: احتفظ بها وعندما تستطيع القراءة اقرأ ما كتبته لك وتذكّرني. أخذ منها الورقة ووضعها في جيبه. كان مسالماً إلى أقصى درجة، وكان المجنّد حنوناً عليه إلى حدّ كبير.
وصل القطار إلى المحطة التي يقصدانها، فودّعته مربتة على كتفه قائلة: سوف تصبح متعاوناً ونافعاً.
فأجابها: سأحرص على قراءتها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©