جعل الرئيس الأميركي أوباما من معاهدة "ستارت" الجديدة، والهادفة إلى الحد من الأسلحة الاستراتيجية بين بلاده وروسيا، أولوية على رأس المعاهدات المقدمة لمجلس الشيوخ بغرض إجازتها. غير أن إجازة المعاهدة هذه لا يزال مثيراً للجدل والخلاف. ذلك أن خصومه الجمهوريين في المجلس لا يريدون لمهمته هذه أن تمر بسهولة من خلالهم. وفي الوقت نفسه يتعين على أوباما ممارسة ضغط رئاسي أكبر على هذه الهيئة التشريعية بغية تمرير عدد آخر من المعاهدات والاتفاقيات المعلقة، لاسيما "اتفاقية قانون البحار". ورغم تأييد الجمهوريين لمعظم هذه المعاهدات فإنهم لم يبذلوا من الجهد ما يقنع أعضاءهم في مجلس الشيوخ بأهمية تمريرها وإجازتها. ومما لا ريب فيه أن نمط تكرار فشل الولايات المتحدة في إجازة هذه المعاهدات الدولية الهامة، من شأنه أن يقوض مصداقية واشنطن ويلحق ضرراً بالغاً بدورها العالمي. ولعل عجز الكونجرس عن تمرير اتفاقية قانون البحار، وكذلك امتناع الولايات المتحدة عن الانضمام إلى معاهدة روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، وكذلك امتناعها عن تطبيق بروتوكولات معاهدة كيوتو المتعلقة بالتغير المناخي... جميعها أمثلة على الضرر الذي ألحقه هذا العجز أو الامتناع عن الدخول في المعاهدات الدولية بوزن أميركا ودورها القيادي العالمي.
صحيح أن معاهدة "ستارت" سوف تتم إجازتها من قبل مجلس الشيوخ خلال العام الحالي. غير أن الأعضاء الجمهوريين في المجلس لا يريدون لهذه المعاهدة أن تمر بالسهولة التي يريدها لها أوباما. ومما يزيد من تعنت الجمهوريين أنهم يخوضون تنافساً شرساً مع خصومهم الديمقراطيين في هذا العام الانتخابي الذي يطمحون فيه إلى تغيير هزائمهم الكبيرة في انتخابات عام 2008 إلى نصر وعودة إلى دوائر صنع السياسات واتخاذ القرارات مجدداً. ويدفع في هذا الاتجاه بصفة خاصة القادة الجمهوريون خارج مجلس الشيوخ. فهم لا يريدون لأوباما أن يحقق عائداً سياسياً سهلاً من إجازة مثل هذه المعاهدات والاتفاقيات الدولية. ويتسرب هذا التعنت إلى داخل مجلس الشيوخ، الأمر الذي يفسر الأسئلة الصعبة والتعجيزية التي يثيرها الأعضاء الجمهوريون بشأن معاهدة "ستارت" وغيرها من المعاهدات الأخرى العالقة. وتشمل تكتيكات الجمهوريين هذه المماطلة المتعمدة وإثارة المطالب التعجيزية بتوفير المزيد من المعلومات من الجهاز التنفيذي حتى تصبح المهمة التشريعية ذات الصلة بهذه المعاهدات والاتفاقيات أشد صعوبة وإجهاداً.
وهناك من كتبَ مقالات في صفحات الرأي -من بينهم "مت روميني"، الحاكم السابق- مشيراً إلى ما وصفه بالغموض في نصوص معاهدة "ستارت" وقائلاً في الوقت نفسه إنها تخدم مصالح روسيا الاستراتيجية الدفاعية، أكثر مما تخدم مصالح الولايات المتحدة. وتصب مثل هذه التعليقات في ذات التعنت الجمهوري الهادف إلى تصعيب مهام الرئيس ووضع كافة العقبات الممكنة أمامه. والمعلوم أن "روميني" والكثير غيره من الأعضاء الجمهوريين بلجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، قد انتقدوا معاهدة "ستارت" الجديدة، على أساس أنها تمنع واشنطن من إقامة نظام دفاع صاروخي ضد روسيا. والغريب في هذا الموقف أن إدارة بوش نفسها كانت قد أعلنت بوضوح عدم رغبتها في أن يوجه نظام الدرع الصاروخية الذي كانت تنوي إقامته في دول شرق أوروبا، ضد روسيا. وربما تكون للجمهوريين بعض هواجسهم وتحفظاتهم على مسائل لها صلة بنصوص المعاهدة نفسها، غير أن الذي لا يخفى في موقفهم العام المعيق لتمرير المعاهدة عبر المجلس، هو عرقلتهم لنجاح مبادرة رئاسية تتعلق بسياسات أوباما الخارجية في عام انتخابي حاسم. ومهما يكن فإنه ينبغي القول بأن الرئيس لم يبذل من الجهد ما يكفي حتى الآن للدفع بعدد من المعاهدات والاتفاقات العالقة بين دهاليز وأروقة مجلس الشيوخ. وأخص من هذه جميعاً: معاهدة ستارت نظراً لأهميتها البالغة، وكذلك اتفاقية قانون البحار، بحكم كونها مثيرة للجدل والخلاف. ورغم انتفاء حاجة الرئيس لأن يكون طرفاً مباشراً في الضغط من أجل تمرير هذه المعاهدات والاتفاقيات، فإن على البيت الأبيض والجهاز التنفيذي الحكومي أن يكثفا ضغوطهما من أجل إجازة المعاهدات هذه. وعليه فإن ما يثير الشعور بخيبة الأمل أحياناً، أن إدارة أوباما الحالية لم تبذل ما يكفي من الجهد لتمرير عدد من المعاهدات الأخرى الأقل إثارة للجدل عبر مجلس الشيوخ.
وبالمقارنة فقد كانت إدارة بوش السابقة أكثر فاعلية وسرعة في إجازة هذه المواثيق الدولية. فقد كان سهلاً عليها دعوة مجلس الشيوخ لعقد جلسات الاستماع، وجدولة عملية الاقتراع، وإنهاء التقارير، وعرض اقتراح إجازة المعاهدة المعينة على المجلس.
والملاحظ أن معاهدات مثل: معاهدة المجلس الأوروبي للجريمة الإلكترونية، ومعاهدة الجريمة المنظمة، وكذلك بعض القوانين ذات الصلة بمعاهدات الحرب، ومعاهدة لاهاي للملكية الثقافية... وغيرها، لم تكن من المعاهدات المثيرة للجدل والخلاف الكبيرين داخل المؤسسة التشريعية. غير أنه كان ممكناً لإدارة بوش أن تعجز عن إجازتها لولا الضغوط التي مارسها البيت الأبيض من أجل إجازتها.
وهناك من يحاجج اليوم بأن الإدارة الحالية وجدت أمامها حوالي 30 معاهدة واتفاقية غير مجازة من قبل الإدارات السابقة، بما فيها إدارة بوش. ومع ذلك فقد تبين أن إدارة أوباما أوفر حظاً من سابقاتها في إجازة المعاهدات العالقة. وربما لا يخلو مثل هذا الحديث من بعض التعميم غير الموضوعي. فالصحيح أن المعاهدات نفسها تقع في نطاق فئات عديدة ومتباينة، وأن الإدارة الحالية أصابت حظاً في بعضها وأهدرت فرصاً كبيرة لإجازة بعضها الآخر. فمثلا يمكن القول إن إدارة أوباما أضاعت فرصة ذهبية لتمرير معاهدة قانون البحار في عام 2009 بسبب الأغلبية الديمقراطية الكبيرة حينئذ في مجلس الشيوخ. أما معاهدات أخرى مثل معاهدة الحظر الشامل على الاختبارات النووية، فهذه سوف تكون مثيرة للخلاف وتتطلب جهداً كبيراً لإجازتها.
وعليه فمن غير الموضوعي أن نطالب الإدارة الحالية بإجازة جميع المعاهدات والاتفاقيات العالقة خلال ولاية واحدة للرئيس أوباما. غير أن عليها أن تدرك مدى الضرر الذي يلحق بمصداقية أميركا ودورها العالمي جراء العجز عن إجازة هذه المعاهدات. وهذا ما يجب أن ينتبه إليه خصومها الجمهوريون بالقدر نفسه.
جون بلينجر
مستشار قانوني سابق بوزارة الخارجية وزميل بمجلس العلاقات الخارجية حالياً
ينشر بترتيب خاص مع خدمة
"تريبيون ميديا سيرفيزيس"