الإثنين 11 أغسطس 2025 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
علوم الدار

"اللامستحيل".. مسيرة محسوبة بمعايير الأمل والإرادة والتخطيط

"اللامستحيل".. مسيرة محسوبة بمعايير الأمل والإرادة والتخطيط
18 يونيو 2019 01:29

محمود إسماعيل بدر (أبوظبي)

في أول اجتماع مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، عام 1948، وصف الرّحالة البريطاني السير ويلفرد ثيسجر (مبارك بن لندن)، الشيخ زايد بقوله: «لقد كان رجلاً قوي البنية، لا يعرف المستحيل، بملامح لطيفة وذكية، وبعينين ثابتتين لامعتين، وروح وثّابة، وإرادة صلبة لا تلين، وكان أسلوبه هادئاً، وبارعاً في الحديث، وإقناع من حوله بفكره الطّموح».
ربما يكون هذا الكلام أفضل مدخل، يقودنا إلى الحديث عن رحلة الشيخ زايد في بناء دولة الاتحاد في 2 ديسمبر عام 1971، حيث تشكّل تجربته الاستثنائية نموذجاً فذّاً لقائد، استطاع بقدرته على صنع المستحيل، وأن ينتقل بالدولة من مجموعة من الإمارات المتباعدة إلى دولة ناهضة موحدة، تعدّ من أنجح التّجارب الوحدوية في العصر الحديث، تجربة قدّمت للعالم أجمع نموذج دولة عصرية، بزغت من الشتات والبدائية ورمال الصحراء القاحلة التي كانت أكبر تحدٍ لحاكم، لديه مخزون من الحب والأماني، بتحويلها إلى واحة غنّاء، تنافس دولاً سبقت الدولة عمراً وحضارة في مجالات عديدة.

إعلان قيام الاتحاد تحقيق لفكرة تفوقت على كل الظروف الصعبة

ربما يكون المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، من أكثر القادة الذين واجهوا عقبات وتحديات في الحياة والسياسة والحكم، ولكنّ انتماءه لعائلة بدوية تقليدية، عكست في نهجها الحياتي تقاليد كفاحية، ساهمت في تكوين شخصيته التي تمتعت بصبر لا ينضب معينه، ومن ذلك مواجهته أولاً لظروف الكساد الاقتصادي في ثلاثينيات القرن الماضي، بسبب القضاء على مهنة الغوص على اللؤلؤ في مياه الخليج، بعد أن توصل اليابانيون إلى استزراع اللؤلؤ الصناعي، هذا إلى جانب مواجهته للظروف السياسية والمتغيرات الطارئة عام 1968، وعندما اجتمع مع المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، في «السميح» في أعقاب إعلان الحكومة البريطانية في ذلك العام، عزمها إجلاء جيوشها عن منطقة الخليج قبل نهاية عام 1971.
وهنا جاء دور المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، في الترتيب مع إخوانه من شيوخ إمارات الساحل المتهادن لمستقبل واحد واعد، وهكذا تحققت معجزة ميلاد دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، والذي لم يعرف قاموسه السياسي والحياتي كلمة (المستحيل)، الزعيم الأكثر حماسة لتحقيق الاتحاد، وفي عام 1971، أُختير رئيساً للدولة، وتجددت رئاسته تلقائياً كل خمس سنوات، وظل مثار إعجاب واحترام العالم أجمع حتى رحيله.

من 3% نسبة مشاركة المرأة في الحكومة إلى شغل 66% من الوظائف الحكومية
بعد كل هذا العراك مع الظروف المحيطة، نجح المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، في أن يجعل من أبوظبي المدينة الأكثر نمواً وتجدداً وتطوراً وزهواً، وفق معادلة الأصالة والمعاصرة، وذلك بفضل حكمته ونظرته المستشرفة الثاقبة، وإخلاصه لأمته وشعبه، وحرصه على أن يهتم هو نفسه بكل تفاصيل التطورات والمشاريع التنموية.
ومع مرور السنوات، تحوّل زايد ليغدو رجل الدولة المحنّك الذي تستند خبرته إلى التقاليد البدوية التي أثُريت بتجارب عمر بكامله في الحياة السياسية، وهكذا فقد احتفظ زايد بورعه وتقواه وتمسكه بتقاليده البدوية، وحرصه على الالتزام بمبدأ الشورى، بدولة مرموقة، أخذت على عاتقها أن تكون (الرقم 1) في كل مناحي الحياة، غير أن عبقرية زايد في الواقع، وهو رجل المواقف الحكيمة والشجاعة، تتمثل في تحقيق ذلك الانتقال المدهش من حياة البادية إلى الدولة الحديثة بكل متطلباتها وتعقيداتها، وذلك من دون متاعب أو دخول صراعات ومشاحنات أو أحلاف، ومن دون أن يضع قدمه في غير موضعها ولو مرة واحدة.
وعن تجربة الاتحاد، يقول المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه: «إن الاتحاد ما قام إلا تجسيداً عملياً لرغبات وأماني وتطلعات شعب الإمارات الواحد في بناء مجتمع حر كريم، يتمتع بالمنعة والعزة، وبناء مستقبل مشرق وضاح، ترفرف فوقه راية العدالة والحق، وليكون رائداً ونواة لوحدة عربية شاملة، إن الحاضر الذي نعيشه الآن على هذه الأرض الطيبة هو انتصار على معاناة الماضي والمستحيل من العقبات وقسوة ومرارة الظروف».

من لا طرق إلى الوصول للمريخ

الانطلاق نحو المستقبل
يجمع كل من عرفوا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، وتعاملوا معه عن قرب، على أنهم تأثروا به وبمدرسته ونهجه في السياسة والحكم والحياة، فما بال من تربّى في حجره، وفي كنفه، وتتلمذ في مدرسته، ونهل من خبرته، وتمرّس في حكمته؟ هي إذن حلقة متواصلة ومسيرة متقدة من العطاء والتحدي والإنجازات العظيمة من قيادة زايد إلى القيادة الحالية برئاسة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، للحفاظ على مسيرة الاتحاد الظافرة باقتدار، والسير على نهج سياسة تنموية، حققت للإمارات مكانة عالمية مرموقة، وبناء توازن مع العالم، في ظل ظروف صعبة ومضطربة على المستويات كافة.
ويقول صاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله، في السياق: «لقد نجحنا في دخول الألفية الثالثة ونحن أكثر ثقة بالنفس، وأكثر قدرة واستعداداً للتفاعل الإيجابي مع المستجدات العالمية، وفي مقدمتها النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وثورة المعلومات والاتصالات، وانفتاح الأسواق، خاصة مع بدء سريان قوانين منظمة التجارة العالمية».

من ميناء للصيادين إلى 77 ميناء عالمياً
وهو المبدأ الذي يؤكده صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، بقوله: «إننا نعيش اليوم عصراً يشهد تغيّرات دراماتيكية متسارعة، تتمثل في العديد من الإنجازات والمعارف والاكتشافات الجديدة المتلاحقة، وتحتّم هذه التطورات على الدول والمدن والشركات والأفراد مواكبتها، من خلال مواصلة التكيّف والتعلم بالوتيرة نفسها التي تطبع تحولات عالمنا».
ويقول أيضاً: «إن (رؤية الإمارات 2021)، و(خطة دبي 2021)، ترسمان آفاق طموحاتنا، لنصبح في عداد أفضل الدول على مستوى العالم، وحاضرة كونية ذات مستوى عالمي، ولا تقتصر كلتا الرؤيتين على إبراز طموحات قيادتنا الرشيدة فحسب، بل تحددان أيضاً مجالات التركيز الاستراتيجية والمبادرات الحقيقية الرامية إلى تحقيق أهدافنا، ولم يكن الخوف ليثنينا أبداً عن الأحلام الكبيرة، فنحن نُبقي على أقدامنا راسخة في الأرض، بينما نعمل بكد على تحويل أحلامنا إلى واقع ملموس». وهذا المعنى، يعطيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بعداً مستقبلياً طموحاً، بقوله: «إننا اليوم نفكر ونخطط لخمسين سنة قادمة ولمصلحة الأجيال، عبر بناء اقتصاد متنوع ومتين ومستدام، لا يعتمد على الموارد التقليدية، ويفتح آفاقاً واعدة، تساهم في تعزيز مقومات وقدرات الدولة».

من تجارة محلية محدودة إلى اقتصاد عالمي متنوع

ملحمة إماراتية مستمرة
يؤشر هذا الواقع، ومن خلال التطلعات التي يعبر عنها قادة الدولة بمبادرات وبرامج، إلى أن المشروع الإماراتي كان في مبتدأه، وفي مساره، وفي مآلاته، اختراقاً للمستحيل، فمن كان يظن قبل خمسين سنة أو أكثر، أنه سوف تقوم فوق هذه الكثبان المتمادية، ومن بين جموع الناس التي تمرّست في شظف العيش، دعوة لا تكبّلها الإمكانات، ولا تحول دون تحققها عقبات راسخة؟
لقد كان «المستحيل» هو المثبّط الطبيعي، والجاهز، لتجذير الانفصال بدلاً من الاتحاد، ولتسييد التخلّف على حساب التنمية، وانحسار وانحصار الأجيال خلف أسوار الجهل، لكنْ، خلال خمسة عقود أو أكثر، كانت الإمارات، بقيادتها وشعبها، تخوض ملحمة غير مسبوقة، عنوانها كسر قاعدة المستحيل، وهو ما تحقق بنجاح باهر، يمكن رصد مخرجاته في ما يلي:
أولاً: لقد كان تحقيق مبدأ الاتحاد، وحدة الوطن والشعب، ثمرة من ثمرات تحدي المستحيل في ذلك الوقت. فقد ظهر مشروع اتحاد الإمارات، في وقت بدا فيه وكأن كل المشروعات (أو الإعلانات) الوحدوية العربية، وصفة مريرة للانفصال. وكذلك الأمر كان على المستوى الدولي، حيث ضربت رياح الانفصال عديد الشعوب والأوطان، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، والحرب الباردة.


ثانياً: كانت مأسسة الاتحاد الناهض، أي بتكوين الدولة وتشكيل مؤسساتها الناظمة على قاعدة دستورية صلبة، هي الأخرى ضرباً من المستحيل، أو بالأحرى ضرباً للمستحيل. ففي ذلك الوقت، بدت فكرة الكيانات الوطنية، وكأنها عرضة للتهشيم وتفريغ مسوغاتها، بسبب إعلاء الأيديولوجيات على مبدأ الولاء الوطني. فجاءت صيغة دولة الإمارات العربية المتحدة، بشكلها ومضمونها، لتقدم صيغة قادرة على العيش والتطور، تتمناها كل الشعوب التي ابتليت كياناتها الوطنية باستعصاءات وجودية.
ثالثاً: كان يمكن للمشروع الإماراتي أن يكتفي بنجاحاته الأولى، وأن يتوقف عندها، خصوصاً وأن الطفرة النفطية كانت تغري بالاستغناء عن التفكير في المستقبل واحتياجاته وضروراته. لكن القيادة الإماراتية، آثرت مرة جديدة الخوض في غمار المستحيل، لكي تبني نهضة مستدامة، لا تأخذ في حسبانها الثروة الطارئة، بقدر ما تبني على إرادة الإنسان.
فهل كان التحدي الإماراتي للمستحيل، مجرد مغامرة، أم مسيرة محسوبة بمعايير الأمل، والإرادة، والتخطيط؟
إنه سؤال، سوف يأتي الجواب الإماراتي عليه، من المريخ.. أي من المشروع الذي بذر جذوره تحت شجرة الغاف، وأورفت فروعه شاسعة في الفضاء.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©