من بين سمات اقتصاد الولايات المتحدة قدرة سكانها الكبيرة على الانتقال من ولاية إلى أخرى من أجل العيش والاستقرار سعياً وراء فرص أفضل؛ لكن الركود الاقتصادي العميق أثر في الاتجاهات السكانية القديمة، حيث أبطأ كثيراً الهجرةَ إلى معظم ولايات "الحزام الشمسي" (الولايات الجنوبية) بينما أعطى دفعة للولايات حيث الوظائف أكثر والسكن متاح بشكل أكبر. والآن وفي وقت يبدو فيه أن الانتعاش أخذ يحشد زخماً، يطرح سؤال مركزي حول ما إن كانت التغيرات السكانية التي تسببت فيها الأزمة الاقتصادية الكبيرة من 2007 إلى 2009 تمثل تغيراً طويل المدى أم أن الاتجاهات السابقة ستعود في النهاية مع عودة الانتعاش.
المجموعة الأولى من البيانات من إحصاء 2010، والتي أفرج عنها خلال الآونة الأخيرة، أبرزت الدور الكبير الذي تلعبه القوى الاقتصادية في تحريك التغيرات السكانية. فقد تواصل انتقال السكان – ومعه القوة السياسية – من الشمال الشرقي والوسط الغربي إلى الجنوب والغرب، حيث تشكل ولاية تكساس وجهة معظم الأميركيين؛ غير أنه كانت ثمة تغيرات مهمة داخل ذاك النمط نفسه، ومن ذلك انخفاض مهم في الهجرة إلى كاليفورنيا وفلوريدا وغيرهما من الولايات التي كانت تعد لفترة طويلة من بين الأسرع نمواً في البلاد. وعلى سبيل المثال، بوب بالميري، 58 عاماً، من منطقة لونج آيلند، لا ينوي السير على خطى والديه اللذين كانا في عقد السبعينيات من بين أفواج الأميركيين كبار السن الذين اختاروا الانتقال من نيويورك ونيوجيرسي والاستقرار في فلوريدا بعد تقاعدهم إذ يقول: "لديّ منزل جميل هنا... وشخصياً، أنظر إلى فلوريدا كمكان للمسنين".
ولكن تلك القوى نفسها ستحدد ملامح العقد الحالي ربما، أو على الأقل جزأه الأول. وفي هذا الإطار، يقول "ستيفان ليفي"، مدير مركز دراسة اقتصاد كاليفورنيا في بالو آلتو: "مع مرور الوقت، ستعكس أعداد السكان معدلَ نمو الوظائف".
والواقع أن العديد من الأميركيين يرغبون في الانتقال إلى أماكن أخرى، ولكنهم لا يستطيعون لأنهم لا يستطيعون بيع منازلهم؛ هذا بينما يدين آخرون بديون أكبر مما تساويه قيمة منازلهم حاليا. كما أن العديد من الشباب، الذين يمثلون الجزء الأكبر ممن ينتقلون من ولاية إلى أخرى داخل البلاد، مازالوا يعيشون في منزل الوالدين، حيث يؤخرون الزواج وإنجاب الأطفال بينما يتصارعون مع تباطؤ الاقتصاد. وإجمالاً، ازداد سكان البلاد بـ9.7 في المئة من 2000 إلى 2010، وهو أصغر معدل نمو في ظرف 10 سنوات منذ عقد "الركود الكبير". وعلى غرار ما حدث في الثلاثينيات، فإن أحدث تباطؤ اقتصادي كان بسبب قدوم عدد أقل من المهاجرين وتقلص معدل الولادات في البلاد، وهو أمر يعزى جزئياً إلى الأزمة الاقتصادية.
ويرى "ستانلي سميث" المتخصص في علوم السكان بجامعة فلوريدا أنه لو لم يحدث الركود، لكانت فلوريدا ستضيف 500 ألف ساكن ربما خلال العقد الماضي، علما بأن معدل الولادات بالولاية الذي يبلغ 10 مقابل 2000 يعد دون الوتيرة التي كانت سائدة في السبعينيات بـ17.6 في المئة. ويعتبر سميث أن مناخ فلوريدا المشمس وغياب ضريبة على الدخل تفرضها الولاية، من بين عوامل أخرى، سيساعدان على استعادة نمو سكاني أكبر بموازاة مع أخذ الاقتصاد في التحسن؛ ولكن ذلك قد يستغرق وقتاً طويلًا بالنسبة لفلوريدا وولايات أخرى مثل كاليفورنيا التي اعتمدت كثيراً على القطاع العقاري وقطاعات أخرى تضررت كثيراً بسبب الأزمة. ويذكر هنا أن أسعار المنازل استمرت في الانخفاض عبر البلاد في شهر أكتوبر الماضي، حيث انخفضت عموماً بمعدل 1 في المئة مقارنة مع شهر سبتمبر، وذلك حسب الأرقام التي أفرج عنها يوم الثلاثاء الماضي.
ومازال معدل البطالة في فلوريدا، الذي بلغ 12 في المئة الشهر الماضي، واحداً من بين أعلى المعدلات في البلاد. وفي ظل ضعف أسواق العمل، يقول عدد من المحللين إن مثل هذه الولايات قد تشهد نمواً سكانياً أقل من المعتاد خلال العقد المقبل؛ وهذا بدوره قد يعني نمواً اقتصادياً أكثر بطئاً ومزيداً من ضغوط الميزانية على حكومات الولايات والحكومات المحلية. والواقع أن ولاية نيفادا أيضاً، وبدرجة أقل ولاية أريزونا، توجد في هذا الخندق؛ حيث أدى انفجار الفقاعة العقارية وارتفاع البطالة إلى كبح ما كان في الماضي يمثل موجة زيادة في الوظائف وتقاطر السكان القادمين من ولايات أخرى عليها. ويذكر هنا أن العديد من السكان الجدد كانوا قد قدموا من ولاية كاليفورنيا، ولكن الركود وأزمة القطاع العقاري حدَّا من تدفق السكان القادمين من "الولاية الذهبية" (كاليفورنيا) – وإن كان الإحصاء الجديد يشير إلى أنه كان ثمة نزوح أكبر بكثير لسكان كاليفورنيا خلال الأعوام الأولى من العقد الماضي مما كان يعتقد في السابق.
ويقدر إحصاء 2010 سكان كاليفورنيا بأكثر من 37 مليون نسمة، ما يمثل زيادة بـ10 في المئة مقارنة مع سنة 2000، ولكن ذلك كان أقل بحوالي 1.5 مليون من تقديرات وزارة المالية. ويعود أحد الأسباب الممكنة لهذا التفاوت إلى حقيقة أن الارتفاع في أسعار المنازل قبل الأزمة جعل من الصعب على غير المقيمين الانتقال للعيش في كاليفورنيا؛ هذا في وقت غادر فيه عدد أكبر من السكان الولاية ربما بعد الأزمة التي أصابت قطاع تكنولوجيا المعلومات في مطلع العقد الماضي، كما يقول "ليفي". وإذا كان النمو السكاني في كاليفورنيا خلال العقد الماضي متوسطاً فقط - الأمر الذي لم يمنح الولاية مقعداً جديداً في مجلس النواب لأول مرة منذ 90 عاماً - فذلك يعود لحد كبير إلى أن نمو الوظائف في الولاية خلال العشر سنوات الماضية كان متوسطاً فقط أيضاً.
دون لي
محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"